تطور الدين اليهودي
دراسة في أصول معتقداتنا المتوارثة..
مقدمة
لطالما ظننت أن التفسير المسيحي للتوراة هو تفسير بالغ الاعوجاج والمراوغة, ولطالما ظننت أن الدين اليهودي يخفي أسرارا يخجل المسيحي من ذكرها , فبينما يقدم المسيحي صورة العهد القديم وكأنه منسجم مع العهد الجديد, فانا أرى في العهد القديم تاريخ تطور شعب ودين, لقد كُتب لأساطير اليهود أن تصبح تراثا يدين به أكثر من نصف البشرية من مسيحيين ومسلمين... إلا أن اليهودية, كونها أولى الأديان التوحيدية لم تنشأ بين ليلة وضحاها, بل شهدت تطورات كبيرة , وإن عدنا بها للأصل, نجد الجبين اليهودي-المسيحي-الإسلامي يندى لأصلها خجلا ..
أركز هنا على اليهودية عملا بمقولة"اضرب رأس الحية" لان اليهودية, إذا ما تفحصناها, نجدها ملحمة بشرية تطورت عبر آلاف السنين وليست شريعة إلهية ثابتة كما يدعى اليهود والمسيحيون ولا هي نتيجة تحريفات لشريعة أصلية كما يدعى الإسلام, ذلك الدين الذي يدعى حدوث "محرقة جماعية" للنصوص الإلهية التي أتت من قبله, ليوفر على نفسه مشقة تفسير نصوص الأولين وتوفيقها بعضا ببعض, وكان الأولى على هذا الدين ألا يفترض روابط بينه وبين ما سبقه من الأديان , بدلا من إلقاء الكلام بهذا الأسلوب المستخف بعقول المؤمنين والكفار على حد سواء.
نراجع في هذا البحث الصغير مراحل تطور الدين اليهودي عبر فترات زمنية ونلاحظ معا دخول بعض المعتقدات لهذا الدين من حضارات مجاورة , بعض المعتقدات التي صارت لاحقا "ثوابت لا ينكرها عاقل" في نظر اكبر دينين من حيث عدد الأتباع حاليا ...
سنعرض تاريخ اليهودية حسب بعض الحقب الزمنية وهي:1- ما قبل موسى 2- شريعة موسى 3- الأنبياء 4- ما بعد السبي لزمن يسوع الناصري
أولا : مرحلة ما قبل موسى
يكتنف الغموض هذه المرحلة بشكل عام, لا يوجد أي ذكر لنهاية العالم أو للحساب أو لأي شكل من أشكال البقاء بعد الموت. لا يوجد أي ذكر للشيطان في هذه المرحلة , وتتهافت حجج المسيحيين الذين يحاولون لصق قصة السقوط بالشيطان, فالتوراة تتحدث عن حية تغوى وحية تُعاقـَب ولا يأتي ذكر من قريب أو بعيد للشياطين ولا تذكر التوراة أن الشيطان دخل في حية أو اتخذ شكلها, القصة واضحة وصريحة ولا تحتمل أي مط أو لي عنق.
تذكر التوراة أن إبراهيم يعبد "الايلوهيم" وهذه الكلمة هي بصيغة الجمع , مما يدفعنا للاعتقاد أن اليهود القدامى كانوا يعبدون أكثر من اله واحد. قد يحتج البعض بان صيغة الجمع هي للتفخيم لكن من الملاحظ أن الأسفار المكتوبة بعد ذلك بكثير أصبحت تستخدم اللقب المفرد "ايل" مما يثير مزيدا من الشك وعموما فهنالك ملاحظات تالية تشدد على عبادة اليهود القدامى لآلهة متعددة.
مما يستوجب التدقيق أيضاً هو استخدام سفر التكوين لضمير الأنثى عند الحديث عن الإله واستخدام مصطلحات أنثوية Mothering وgiving birth through labor pains وتم تغيير هذه الألفاظ إلى Fathering عند ترجمة التوراة للإنجليزية..
كما تتحدث التوراة عن الإله في هذه الفترة بأوصاف بشرية إلى حد كبير يصل أحيانا لتصور الإله على ان له جسما ماديا أيضا.. "وسمعا صوت الرب الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار." "فحزن الرب انه عمل الإنسان في الأرض. وتأسف في قلبه"
ثانيا : شريعة موسى
يبدو ان شريعة موسى دفعت باليهودية للامام (أو بالأصح للخلف!!) تجاه فكرة التوحيد , وهي لم تصل للتوحيد المطلق وإنما طورت الفكر اليهودي من تعدد الآلهة Polytheismإلى عبادة اله واحد بالرغم من الاعتقاد بوجود آلهة أخرى Monolatry ولعل هذا يتضح لنا من خلال النص التوراتي في سفر الخروج "لا يكن لك آلهة أخرى أمامي" فالنص لم ينفي قط وجود آلهة أخرى لكنه فقط دفع الناس لعبادة "يهوة" ويتكرر النص حرفيا في سفر التثنية أيضاً وبالمناسبة فالكلمة أصلا هي YHWH والتي تعنى حرفيا "أنا هو ما أنا عليه" ولهذه اللحظة يستخدم اليهود المحافظون الكلمة بهذا الشكل من دون كتابتها "يهوه"
من الملاحظ ان شخصية يهوه في هذه الفترة كانت كريهة لحد بعيد, فمثلا الضربات المتتالية على شعب مصر كانت عدوانية بشكل غير مبرر, كذلك يبدو ان يهوه قد خالف الشريعة المتفق عليها بشكل عالمي والقائلة ان الأعمال بالنيات, فتذكر التوراة انه قتل رجلا لمجرد ان هذا الرجل كسر وصية عدم لمس التابوت لمجرد منعه من السقوط , أي انه جازى المسكين على اهتمامه بالتابوت بان قتله! ومن المثير للسخرية ان التوراة تذكر ان داود نفسه استنكر هذا العمل !! "ولما انتهوا إلى بيدر ناخون مدّ عزّة يده إلى تابوت الله وامسكه لان الثيران انشمصت. فحمي غضب الرب على عزّة وضربه الله هناك لأجل غفلة فمات هناك لدى تابوت الله . فاغتاظ داود لان الرب اقتحم عزّة اقتحاما وسمّى ذلك الموضع فارص عزّة إلى هذا اليوم"
هذا ولم تدخل معتقدات جديدة غير ما سبق ذكره لليهودية في هذه الفترة.
ثالثا : الأنبياء
لم تكن الأيام التي أتت بعد موسى أياما سعيدة لليهود, فلقد دخلوا في نزاعات داخلية, ودخلوا في صراعات مريرة مع سكان الأرض الفلسطينيين الأصليين, أراد اليهود ان يتحدوا تحت لواء ملك قوى واحد, ولقد كان هذا تحدى لسلطة القيادة الدينية , التي رأت في ملك قد يكون علمانيا خطرا كبيرا على سلطتها, فالملك قد يكون مسالما لا يريد حروبا مع جيرانه, وقد يسمح بتزاوج اليهود مع الشعوب الأخرى, مما يعنى للسلطة الدينية نهاية العرق اليهودي وذوبانه في سلام مع الشعوب الأخرى, ويبدو ان هذا كان آخر شيء يريده كهنة يهوه....
وقد بدا الغيظ واضحا على النبي صاموئيل عندما طالبه الشعب علنا في تحد واضح للسلطة الدينية بإقامة ملك, ولقد ذكر صاموئيل على لسان يهوه في حنق : " اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك.لأنهم لم يرفضوك انت بل اياي رفضوا حتى لا املك عليهم. حسب كل أعمالهم التي عملوا من يوم أصعدتهم من مصر إلى هذا اليوم وتركوني وعبدوا آلهة أخرى هكذا هم عاملون بك أيضا. فالآن اسمع لصوتهم.ولكن أشهدنّ عليهم واخبرهم بقضاء الملك الذي يملك عليهم"
وهكذا اضطر صاموئيل صاغرا إلى الانصياع لرغبة الشعب فيما يبدو انه كان أول انقلاب علماني على سلطة الدين في التاريخ اليهودي...
وقام صاموئيل باختيار شاول راجيا ان يكون الأخير عند حسن ظنه, وكان أول اختبار وجهه صاموئيل لشاول هو مجزرة جماعية كما هو متوقع..لكن شاول فشل في أول اختبار واظهر تسامحا مع شعوب الجوار " وعفا شاول والشعب عن اجاج وعن خيار الغنم والبقر والثنيان والخراف وعن كل الجيد ولم يرضوا ان يحرّموها" عندها أدرك صاموئيل ان شاول ميؤوس منه وسرعان ما افتعل خلاف مع شاول لينزع عنه السلطة الملكية ويعطيها لداود, الذي كان خير خادم لإرادة يهوه (أو بالأدق كهنة يهوه !!) على ما يبدو ....
دراسة في أصول معتقداتنا المتوارثة..
مقدمة
لطالما ظننت أن التفسير المسيحي للتوراة هو تفسير بالغ الاعوجاج والمراوغة, ولطالما ظننت أن الدين اليهودي يخفي أسرارا يخجل المسيحي من ذكرها , فبينما يقدم المسيحي صورة العهد القديم وكأنه منسجم مع العهد الجديد, فانا أرى في العهد القديم تاريخ تطور شعب ودين, لقد كُتب لأساطير اليهود أن تصبح تراثا يدين به أكثر من نصف البشرية من مسيحيين ومسلمين... إلا أن اليهودية, كونها أولى الأديان التوحيدية لم تنشأ بين ليلة وضحاها, بل شهدت تطورات كبيرة , وإن عدنا بها للأصل, نجد الجبين اليهودي-المسيحي-الإسلامي يندى لأصلها خجلا ..
أركز هنا على اليهودية عملا بمقولة"اضرب رأس الحية" لان اليهودية, إذا ما تفحصناها, نجدها ملحمة بشرية تطورت عبر آلاف السنين وليست شريعة إلهية ثابتة كما يدعى اليهود والمسيحيون ولا هي نتيجة تحريفات لشريعة أصلية كما يدعى الإسلام, ذلك الدين الذي يدعى حدوث "محرقة جماعية" للنصوص الإلهية التي أتت من قبله, ليوفر على نفسه مشقة تفسير نصوص الأولين وتوفيقها بعضا ببعض, وكان الأولى على هذا الدين ألا يفترض روابط بينه وبين ما سبقه من الأديان , بدلا من إلقاء الكلام بهذا الأسلوب المستخف بعقول المؤمنين والكفار على حد سواء.
نراجع في هذا البحث الصغير مراحل تطور الدين اليهودي عبر فترات زمنية ونلاحظ معا دخول بعض المعتقدات لهذا الدين من حضارات مجاورة , بعض المعتقدات التي صارت لاحقا "ثوابت لا ينكرها عاقل" في نظر اكبر دينين من حيث عدد الأتباع حاليا ...
سنعرض تاريخ اليهودية حسب بعض الحقب الزمنية وهي:1- ما قبل موسى 2- شريعة موسى 3- الأنبياء 4- ما بعد السبي لزمن يسوع الناصري
أولا : مرحلة ما قبل موسى
يكتنف الغموض هذه المرحلة بشكل عام, لا يوجد أي ذكر لنهاية العالم أو للحساب أو لأي شكل من أشكال البقاء بعد الموت. لا يوجد أي ذكر للشيطان في هذه المرحلة , وتتهافت حجج المسيحيين الذين يحاولون لصق قصة السقوط بالشيطان, فالتوراة تتحدث عن حية تغوى وحية تُعاقـَب ولا يأتي ذكر من قريب أو بعيد للشياطين ولا تذكر التوراة أن الشيطان دخل في حية أو اتخذ شكلها, القصة واضحة وصريحة ولا تحتمل أي مط أو لي عنق.
تذكر التوراة أن إبراهيم يعبد "الايلوهيم" وهذه الكلمة هي بصيغة الجمع , مما يدفعنا للاعتقاد أن اليهود القدامى كانوا يعبدون أكثر من اله واحد. قد يحتج البعض بان صيغة الجمع هي للتفخيم لكن من الملاحظ أن الأسفار المكتوبة بعد ذلك بكثير أصبحت تستخدم اللقب المفرد "ايل" مما يثير مزيدا من الشك وعموما فهنالك ملاحظات تالية تشدد على عبادة اليهود القدامى لآلهة متعددة.
مما يستوجب التدقيق أيضاً هو استخدام سفر التكوين لضمير الأنثى عند الحديث عن الإله واستخدام مصطلحات أنثوية Mothering وgiving birth through labor pains وتم تغيير هذه الألفاظ إلى Fathering عند ترجمة التوراة للإنجليزية..
كما تتحدث التوراة عن الإله في هذه الفترة بأوصاف بشرية إلى حد كبير يصل أحيانا لتصور الإله على ان له جسما ماديا أيضا.. "وسمعا صوت الرب الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار." "فحزن الرب انه عمل الإنسان في الأرض. وتأسف في قلبه"
ثانيا : شريعة موسى
يبدو ان شريعة موسى دفعت باليهودية للامام (أو بالأصح للخلف!!) تجاه فكرة التوحيد , وهي لم تصل للتوحيد المطلق وإنما طورت الفكر اليهودي من تعدد الآلهة Polytheismإلى عبادة اله واحد بالرغم من الاعتقاد بوجود آلهة أخرى Monolatry ولعل هذا يتضح لنا من خلال النص التوراتي في سفر الخروج "لا يكن لك آلهة أخرى أمامي" فالنص لم ينفي قط وجود آلهة أخرى لكنه فقط دفع الناس لعبادة "يهوة" ويتكرر النص حرفيا في سفر التثنية أيضاً وبالمناسبة فالكلمة أصلا هي YHWH والتي تعنى حرفيا "أنا هو ما أنا عليه" ولهذه اللحظة يستخدم اليهود المحافظون الكلمة بهذا الشكل من دون كتابتها "يهوه"
من الملاحظ ان شخصية يهوه في هذه الفترة كانت كريهة لحد بعيد, فمثلا الضربات المتتالية على شعب مصر كانت عدوانية بشكل غير مبرر, كذلك يبدو ان يهوه قد خالف الشريعة المتفق عليها بشكل عالمي والقائلة ان الأعمال بالنيات, فتذكر التوراة انه قتل رجلا لمجرد ان هذا الرجل كسر وصية عدم لمس التابوت لمجرد منعه من السقوط , أي انه جازى المسكين على اهتمامه بالتابوت بان قتله! ومن المثير للسخرية ان التوراة تذكر ان داود نفسه استنكر هذا العمل !! "ولما انتهوا إلى بيدر ناخون مدّ عزّة يده إلى تابوت الله وامسكه لان الثيران انشمصت. فحمي غضب الرب على عزّة وضربه الله هناك لأجل غفلة فمات هناك لدى تابوت الله . فاغتاظ داود لان الرب اقتحم عزّة اقتحاما وسمّى ذلك الموضع فارص عزّة إلى هذا اليوم"
هذا ولم تدخل معتقدات جديدة غير ما سبق ذكره لليهودية في هذه الفترة.
ثالثا : الأنبياء
لم تكن الأيام التي أتت بعد موسى أياما سعيدة لليهود, فلقد دخلوا في نزاعات داخلية, ودخلوا في صراعات مريرة مع سكان الأرض الفلسطينيين الأصليين, أراد اليهود ان يتحدوا تحت لواء ملك قوى واحد, ولقد كان هذا تحدى لسلطة القيادة الدينية , التي رأت في ملك قد يكون علمانيا خطرا كبيرا على سلطتها, فالملك قد يكون مسالما لا يريد حروبا مع جيرانه, وقد يسمح بتزاوج اليهود مع الشعوب الأخرى, مما يعنى للسلطة الدينية نهاية العرق اليهودي وذوبانه في سلام مع الشعوب الأخرى, ويبدو ان هذا كان آخر شيء يريده كهنة يهوه....
وقد بدا الغيظ واضحا على النبي صاموئيل عندما طالبه الشعب علنا في تحد واضح للسلطة الدينية بإقامة ملك, ولقد ذكر صاموئيل على لسان يهوه في حنق : " اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك.لأنهم لم يرفضوك انت بل اياي رفضوا حتى لا املك عليهم. حسب كل أعمالهم التي عملوا من يوم أصعدتهم من مصر إلى هذا اليوم وتركوني وعبدوا آلهة أخرى هكذا هم عاملون بك أيضا. فالآن اسمع لصوتهم.ولكن أشهدنّ عليهم واخبرهم بقضاء الملك الذي يملك عليهم"
وهكذا اضطر صاموئيل صاغرا إلى الانصياع لرغبة الشعب فيما يبدو انه كان أول انقلاب علماني على سلطة الدين في التاريخ اليهودي...
وقام صاموئيل باختيار شاول راجيا ان يكون الأخير عند حسن ظنه, وكان أول اختبار وجهه صاموئيل لشاول هو مجزرة جماعية كما هو متوقع..لكن شاول فشل في أول اختبار واظهر تسامحا مع شعوب الجوار " وعفا شاول والشعب عن اجاج وعن خيار الغنم والبقر والثنيان والخراف وعن كل الجيد ولم يرضوا ان يحرّموها" عندها أدرك صاموئيل ان شاول ميؤوس منه وسرعان ما افتعل خلاف مع شاول لينزع عنه السلطة الملكية ويعطيها لداود, الذي كان خير خادم لإرادة يهوه (أو بالأدق كهنة يهوه !!) على ما يبدو ....