منتدى اللادينيين السوريين

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى اللادينيين السوريين

منتدى اللادينيين و الملحدين السوريين


    (القوقعة)2 تتمة..

    Aser.M
    Aser.M
    مشرف عام
    مشرف عام


    عدد المساهمات : 13
    تاريخ التسجيل : 09/01/2011

    (القوقعة)2 تتمة.. Empty (القوقعة)2 تتمة..

    مُساهمة من طرف Aser.M السبت يناير 22, 2011 10:24 pm

    بعد أن خذلني المساعد، أعود إلى الله، لم يبق من مخلص غيره، وساعات الضيق وانعدام الأمل يعود فيها الإنسان إلى الله. عدت إليه، راجياً "سرا" أن ينجيني من الأشرار، كنت في غاية التهذيب وأعمق درجات الأيمان والخشوع:
    - يا رب خلصني ... أنت المخلص، نجني من بين أيديهم.
    قلت هذا الكلام دون أن انطقه، طاف بذهني، ومنه خرج مسرعاً باتجاه السماء.
    قواي تخور، قدرتي على الصراخ تخفت، يصبح الألم حاداً كنصل الشفرة، أرى الكرابيج ترتفع عالياً، أتوقعها، إذا نزلت هذه الكرابيج على جسدي فأنا حتماً سأموت !! لم يبق أي طاقة لتحمل المزيد من الألم !!.. الموت... أعود إلى الله:
    -يا رب دعني أموت ... دعني أموت ... خلصني من هذا العذاب.
    يصبح الموت أمنية!! أتمنى الموت صادقا ... حتى الموت لا أستطيع الحصول عليه!!.
    الكرابيج ترتفع وتهوي ... الغمامة الحمراء، السماء وردية، يخف الألم... يخفت الصراخ ... موجة ضعيفة من الخدر والنمل تنزل من القدمين إلى باقي أنحاء الجسم!!.
    الخدر يزداد ... موجة من الارتياح اللذيذ تغمرني ... الكرابيج ترتفع وتهوي ... الألم اللذيذ ... أشعر بالجسد المتوتر قد ارتخى ... ثم أغيب !!!!.

    16 تشرين الثاني
    منذ الصباح يعم ضجيج مكبرات الصوت. أرجاء السجن وما حوله تبث الأناشيد الوطنية والأناشيد التي تمجد رئيس الدولة وتسبغ عليه صفات الحكمة والشجاعة وتصفه بأوصاف عديدة، فهو المفدى، القائد العظيم، المعلم، المُلهِم... تذكر أفضاله العميمة على جميع أبناء الشعب ، فلولاه لما بزغت الشمس ،وهو الذي يمنحنا الهواء لنتنفس ، والماء لنشرب ...
    نحن السجناء جميعاً نقف في الساحات في صفوف منتظمة، ولأول مرة منذ مجيئي الى هنا سمحوا لنا بالوقوف ضمن الساحة مفتوحي الأعين.
    أعطوا واحداً من السجناء ورقة، ومما هو مكتوب عليها يهتف... فنهتف وراءه: بالروح...بالدم سنفدي رئيسنا المحبوب والمعبود !.

    قبل قليل انتهى الاحتفال. أعادونا الى المهجع.
    أشعر الآن ان صحتي أصبحت جيدة، لقد مضى الآن أكثر من ستة اشهر ونصف على اللحظة التي أعدت فيها فتح عيني على رأس حليق "على الصفر"، ينحني الشخص ذو الراس الحليق فوقي وبيده مزقة قماش مبللة بالماء يحاول أن يمسح بها بعض جروح جسدي، لاحظ صحوتي فابتسم لي، قال:
    - الحمد لله انك صحيت، أنا الدكتور زاهي ... لا تحكي ولا تتحرك .. والحمد لله على سلامتك، يا أخوي انكتب لك عمر جديد، احمد الله سبحانه وتعالى.
    لم استطع لا الكلام ولا الحركة. لزمتني ثلاثة أيام أخرى بعد صحوتي الأولى لأتكلم، وأكثر من شهر حتى أستطيع الحركة. وطوال هذه الفترة لازمني الدكتور زاهي بعنايته الفائقة، وبلهجة المنطقة الشرقية المحببة كان يشرح لي بما يشبه التقرير الطبي أن وضعي كان خطراً لسببين: الأول أن أذية بالغة قد أصابت إحدى الكليتين وأنني بقيت فترة لابأس بها أتبول دماً. أما الثاني فهو أن مساحة الجلد المتهتك في جسدي قد اقتربت من حد الخطر. وإن تفاوتت النسبة حسب المنطقة. تهتك جلد الظهر بكامله تقريبا ، قسم من البطن ، الجهة الأمامية من الفخذين، القدمان من الجهتين العلوية والسفلية. أما جلد القدم اليسرى فقد انكشط من الجهة العلوية وبانت العظام.
    أخبرني زاهي إنني بقيت ستة أيام غائباً عن الوعي ومعلقاً بين الحياة والموت، كان الملح هو المادة المعقمة الوحيدة المتوفرة، بالملح عالجني الشيخ زاهي، كما كان يحب أن ينادى متنازلا عن لقب دكتور بكل طيبة خاطر وكان يشربني الماء وقليلا من المربى المذاب والمخفف بالماء.
    وكما شرح لي وضعي الصحي فإنه أخبرني عن المعلومات التي وصلتهم من المهاجع الأخرى والتي تقول إن عدد أفراد دفعتنا كان / 91 / شخصاً، قتل منهم ثلاثة في الساحة الأولى أثناء الاستقبال وهؤلاء لم يدخلوهم إلى المهاجع، وخلال فترة غيابي عن الوعي مات عشرة آخرون متأثرين بجروحهم وإصاباتهم البليغة، واثنان من الدفعة أصيبا بشلل دائم نتيجة أذى كبير بالعمود الفقري، واحد فقط أصبح أعمى بعد أن تلقى ضربة كرباج فقأت عينيه، وبعد أن انتهى زاهي من سرد هذه المعلومات قال:
    - والحمد لله على سلامتك .. احمد الله يا أخوي احمده.. و رغم أن الصلاة ممنوعة بس أنت تقدر تصلي سراً ركعتين لوجه الله !.

    الحلاقة
    بعد تسعة أيام من صحوتي وقف رئيس المهجع في الصباح وقال مخاطباً الناس في المهجع:
    - يا إخوان .. اليوم دورنا بالحلاقة، اصبروا وصابرو، سيعيننا الله .. احملوا المرضى ويللي ما بيحسن يمشي على البطانيات، كل بطانية يحملها أربعة فدائيين ... وقدر ما فيكم أسرعوا، السرعة أفضل.. و الله يقوينا!
    فتح الباب، وقف الجميع، حملني أربعة أشخاص، قال لي أحدهم بحماس:
    - لا تْخافْ يا أخي لا تخاف.. راح نحميك بأجسامنا.
    صفان من الشرطة على جانبي الباب، بين الشرطي والآخر حوالي المترين، كل شرطي يحمل كرباجاً، ما أن يصل السجين إلى الباب حتى يبدأ الركض، تتلقاه كرابيج الصف اليميني للشرطة من الأمام، الكرابيج اليسارية تطارده من الخلف، من يتعثر أو يقع .. قد يموت فهو يكون قد كسر التناغم وإيقاع الضرب، يقف الصف من خلفه وتجتمع عليه الكرابيج جميعاً، فإذا كان ذا بنية قوية واستطاع النهوض رغم عشرات الكرابيج المنهالة عليه.. فقد نجا. أماالضعيف فستبقيه الكرابيج لصيقاً بالأرض إلى الأبد.
    حوالي الثلاثمائة سجين من مهجعناركضوا بسرعة، تلقوا الضربات السريعة والكاوية، اصطفوا في الساحة ووجوههم إلى الحائط وأعينهم مغمضة، نحن المرضى وضعونا في منتصف الساحة، الكثير من عناصر الشرطة، الكثير من البلديات وفي أيديهم أمواس الحلاقة للذقن وماكينات حلاقة الشعر على الصفر.
    اللؤم ....؟!!
    كانت هذه هي التجربة الأولى للحلاقة، وسأجربها في القادم من الأيام كثيراً، ولكن منذ المرة الأولى ونتيجة لوضعي كمريض مرمي في وسط الساحة يستطيع أن يراقب كل ما يجري فيها رغم أن عينيه مغمضتان! طرقت ذهني تساؤلات إنسانية كثيرة:
    البلديات سجناء مثلنا، مقهورون مثلنا، صحيح إنهم مجرمون، قتلة ولصوص ولوطيون، ولكنهم يعانون من قهر السجن مثلما نعاني، ولا تعني لهم السياسة شيئا... ولكن من أين تنبع هذه القسوة اللئيمة والضرب المبرح اللذان يكيلهما البلديات للسجناء أثناء الحلاقة؟!
    وكنت دائما أتساءل بذهول: هل من المعقول أن يكون الإنسان لئيماً إلى هذه الدرجة ؟!! وهذا اللؤم المجاني ؟!!
    حلاقة الذقن عملية تشريح أو حراثة للوجه مصحوبة بالبصاق والشتائم، وكان بعضهم يتلذذ بافتعال السعال قبل البصق على وجه السجين كي يكون البصاق مصحوبا بالمخاط !!! وتلتصق بصقة البلديات بالوجه ! ويمنع السجين من مسحها.
    حلاقة الرأس .. مع كل سحبة ماكينة على الرأس، وبعد أن ينفض البلديات الشعر المحلوق، ضربة قوية بالماكينة نفسها على المكان المحلوق وهو يصر على أسنانه ويشتم:
    - يا عرص يا ابن العرص .. منين جايب كل هالقمل؟!
    - ولك يا منيك ... شو عامل راسك مزرعة قمل؟!
    ومع كل ضربة ماكينة، إما أن ينفر الدم، أو تظهر كرة صغيرة في الرأس مكان الضربة!!.
    الكثير من السجناء عرف الكثير من البلديات، هم من نفس قراهم وبلداتهم ومدنهم وأحيائهم، وتبقى نفس الأسئلة مطروحة: ولكن لماذا؟ .. لماذا هو لئيم بهذا القدر؟.. ما هي دوافعه النفسية؟.. هل القسوة و السادية المتأصلة أو العارضة يمكن أن تنتقل بالعدوى؟ أم هي روح القطيع؟!.
    " وددت لو تتاح لي فرصة محادثة احدهم ".
    بعد أن انتهى أحد البلديات من حلاقتي بضربة قوية على رأسي الحليق، قال:
    - ياكلب يا ابن الكلب .. كسرتلي ضهري!! .. عامل حالك ما بتحسن توقف!!.
    أدخلونا جميعاً إلى المهجع بين صفي الشرطة والكرابيج تنهال أكثر ما تنهال على الرؤوس الحليقة!! استلقيت في الركن المخصص للمرضى. إمارات السرور والفرح بادية على كل المساجين:
    " هاهي حلاقة أخرى .. تمر بسلام .. لا زلنا أحياء !! ".

    المهجع
    خلال استلقائي أكثر من شهر في هذا الركن أتيح لي أن أعاين وأفهم الكثير من الأشياء والأمور في هذا المهجع الكبير. يبلغ طول المهجع / 15 / خمسة عشر متراً، وعرضه حوالي ستة أمتار باب حديدي أسود، في أعلى الجدران نوافذ صغيرة ملاصقة للسقف و مسلحة بقضبان حديدية سميكة، لا يتجاوز عرض النافذة خمسين سنتمتراً وطولها حوالي المتر. أهم ما في المهجع هو الفتحة السقفية، وهي فتحة في منتصف السقف طولها أربعة أمتار وعرضها متران، مسلحة أيضا بقضبان حديدية متينة، هذه الفتحة ويسمونها " الشراقة " تتيح للحارس المسلح ببندقية والذي يقف على سطح المهجع أن يراقب ويعاين كل ما يجري داخل المهجع وعلى مدار ساعات الليل والنهار، فوق كل مهجع في السجن الصحراوي حارس مسلح من الشرطة العسكرية.
    ساعات اليوم هنا جزءان لاثالث لهما، اثنتا عشر ساعة نوم إجباري، اثنتا عشرة ساعة جلوس إجباري، كل سجين يملك ثلاث بطانيات عسكرية فقط، يطوي واحدة ويمدها على الأرض فتصبح فراشاً ويتغطى باثنتين، من يملك ألبسة زائدة عن الثياب التي يرتديها يطويها ويجعلها وسادة أو يضع حذاءه كوسادة، ومن يكن مثلي لا يملك ثياباً أو حذاءً فإنه ينام بلا وسادة.
    وعلى كل سجين أن يتقيد بالتعليمات، من السادسة مساءً إلى السادسة صباحاً يجب أن يكون نائماً لا يتحرك، من السادسة صباحاً إلى السادسة مساءً يجب أن يطوي البطانيات الثلاث ويجلس عليها لا يتحرك.
    الذهاب إلى المرحاض يتم وفق نظام خاص، بحيث أن الشرطي الحارس في أي ساعة يخطر له أن ينظر داخل المهجع يجب ألا يرى أكثر من شخص واحد يمشي داخل المهجع، ورئيس المهجع وهو سجين أيضاً يجب أن ينظم كل هذا تحت طائلة المسؤولية.
    لدى أي خلل../ إذا تحرك النائم حركة غير طبيعية مثلاً، إذا كان إثنان يتحدثان إلى بعضهما ليلاً، إذا كان هناك أكثر من شخص يمشي، إذا كان جالساً بطريقةً لاتعجب الحارس/ يصيح الحارس برئيس المهجع:
    - رئيس المهجع .... ولا كرّ !!
    - نعم سيدي.
    - علمّ ...هالكلب.
    وهكذا يكون قد تم تعليم السجين.
    نوبة كل حارس ساعتان. وعدد الذين يتم تعليمهم تابع لمزاج كل حارس، وكل حارس يبلغ من يليه في الحراسة بعدد الذين علّمهم، وفي الصباح يكون المجموع عند الرقيب الذي يحضر إلى الساحة وبصحبته عدد كبير من عناصر الشرطة العسكرية والبلديات، ويصيح:
    - ولا ... رئيس المهجع ياحقير ... عندك تلاتة وتلاتين معلِّمين .... طالعهن لبره لاشوف!.
    ويخرج الفدائيون!.. جزاء وعقوبة التعليم أصبحت عرفاً: خمسمائة جلدة.

    الطعام
    ثلاث وجبات في اليوم، رغيفان من الخبز العسكري لكل سجين، الطعام يأتي في أوان بلاستيكية، العشاء على الأغلب شوربة عدس، الغداء برغل ومرق البطاطا، البطاطا تطبخ مع رب البندورة بدون أن تغسل أو تفرم، ولذلك دائماً هناك عدة سنتمترات من التراب الراقد في أسفل جاط المرق، الفطور لبنة أو زيتون وأحياناً بيض مسلوق.
    يجلب البلديات جاطات الطعام، يضعونها أمام المهاجع ويذهبون، أكثر من ستمائة رغيف خبز، حوالي العشر جاطات بلاستيك مليئة بالبرغل ومثلها من المرقة، كلها تكوّم أمام المهجع.
    ثلاث مرات في اليوم يفتح الباب الحديدي الأسود لإدخال الطعام، وفي كل مرة يكون الفدائيون واقفين خلف الباب، ما أن يفتح حتى يصبحوا جميعاً وبلمح البصر عند الطعام، وبسرعة البرق يحملونه، فدائي واحد لكل جاط برغل، جاط المرق يحمله اثنان، الخبز يكومونه على البطانيات وكل بطانية يحملها أربعة أشخاص، طوال الوقت الذي يستغرقه إدخال الطعام تكون كرابيج الشرطة قد فعلت فعلها، يتفنن عناصر الشرطة ويبتدعون أساليب جديدة:
    أمام جاط شوربة العدس الغالي، أمسك الرقيب بالفدائي الذي هم بحمل الجاط. قال:
    - أترك الجاط على الأرض ... ولا شرموط!
    ترك السجين الجاط ووقف.
    - وهلق ... غطس إيديك بالشوربة لشوف!
    وخرجت اليدان من الشوربة مسلوختين. وأجبره بعدها أن يحمل الجاط بيديه المسلوختين إلى داخل المهجع.
    كل بضعة أيام يقتل واحد أو أكثر أثناء إدخال الطعام إلى المهاجع.

    الفدائيون
    يوجد هنا أناس من كل الأعمار، رجال في الثمانين من عمرهم، فتيان لم يتجاوزوا الخامسة عشر، يوجد مرضى، ضعفاء، ذوو عاهات سواء كانت في الأصل أو حدثت جراء التعذيب.
    الفدائيون مجموعة من الشباب الأقوياء ذوي الأجساد المتينة، تطوعوا من تلقاء أنفسهم للقيام بالمهام الخطرة التي تحتاج إلى قوة تحمل أو سرعة، مثل إدخال الطعام إلى المهجع، أو إذا تم " تعليم " أحد المرضى أو الشيوخ من قبل الحراس، فإن أحد الفدائيين ينوب عن هذا المريض في تلقي الخمسمائة جلدة، لا يعرف أحد أي مهجع في السجن كان السباق إلى ابتداع هذه الفرقة الفدائية، ولكن في لحظة ما تبين أن لدى كل مهجع في السجن فرقة فدائية، "اكتشفت الشرطة في السنوات اللاحقة هذا الأمر، ففي أحد الأيام كان الحراس يتسلون بمراقبة أحد المهاجع وتعليم السجناء، وأصبح عدد الأشخاص الذين تم تعليمهم يفوق عدد أعضاء الفرقة الفدائية، وأصر بعض الفدائيين على الخروج مرة ثانية لتلقي خمسمائة جلدة أخرى، وفوراً اكتشف عناصر الشرطة آثار الضرب والكدمات الحديثة على أرجلهم ولكنهم رغم ذلك لم يفعلوا شيئا حيال الأمر".
    سمعت أحد الفدائيين يقول إلى زميله:
    - نحن مشروع شهادة.
    وهم صادقون في سعيهم إلى الاستشهاد، وقد أنقذت الفرق الفدائية حياة الكثير، وعملهم يتسم بالإخلاص والاندفاع الشديدين النابعين عن إيمان عميق.
    في مرة أخرى سمعت دعاء أحدهم بعد الصلاة التي أداها جالساً:
    - اللهم انك قادر على كل شيء، باسمك الجليل هبني الشهادة، وخذني إلى جنتك حيث النبيّون والمؤمنون الأخيار.
    بعضهم كان يقوم بعمله بتواضع شديد وصمت، وعلى بعضهم الآخر كنت ألاحظ نبرة زهو وتشوف في حديثه.

    الحمّام
    نحن في المهجع ستة مرضى لا نذهب إلى الحمام، أنا وزميلي في الدفعة الذي بقي غائباً عن الوعي طوال الفترة التي كنت لا أستطيع الحركة فيها، "وكان قد دخل إلى هذا المهجع من دفعتنا ثلاثة، واحد مات بعد يومين، أنا صحوت بعد ستة أيام، أما الثالث فقد بقي شهرين يتأرجح بين الموت والحياة، صحا بعدها وشفي" وأربعة مشلولون، اثنان منهم بالأصل شلل أطفال ، الثالث أثناء الاستقبال، أما الرابع فقد شل نتيجة التعذيب بـ " المظلة ".
    الحمام إجباري للجميع إلا الذين لا يستطيعون الحركة، خاصة وقد كتب على بابه إن النظافة من الإيمان، ذهب المهجع إلى الحمام مرتين خلال فترة الشهر التي بقيت فيها لا أستطيع الحركة، يخلعون كل ثيابهم يبقون فقط بالسراويل الداخلية.
    بعد شفائي نسبياً وقدرتي على الحركة ذهبت مع المهجع إلى الحمّام!.
    الكيلوت الذي كنت ارتديه عند مجيئي إما أنه تقطع أثناء الاستقبال أو أنه ضاع، صحوت بعد ستة أيام فوجدت نفسي مرتدياً سروالاً داخلياً يصل إلى الركبتين وثيابي مكومة إلى جانبي، وبهذا السروال وقفت بالصف داخل المهجع بانتظار الذهاب إلى الحمّام. الكل متوجس، الكل خائف، نقف خلف الباب الأسود تحيط بنا الأدعية والابتهالات إلى الله، خلفي اثنان يتحادثان حول أبواب السجن، كلها حديدية وكلها سوداء، أحدهم يروي للآخر عن سجينة اسمها "ترفة" كانت قد قطعت عهداً على نفسها نتيجة لكثرة الاستفزازات التي كانت تشكلها الأبواب السوداء لها بأنها بعد خروجها من السجن ستحضر نجاراً يخلع لها كل أبواب بيتها، هي لا تريد أبواباً مغلقةً أبداً.
    فتح الباب ... خرجنا ركضاً، اثنين اثنين، حولنا من الجانبين الشرطة يحملون الكرابيج التي ترتفع عالياً وتهوي على من تصادفه، الكل حفاة " كانت قدماي لما تشفى جيدا بعد "، من الساحة السادسة عبرنا ثلاث ساحات أخرى حتى وصلنا الحمام، بناء مستطيل يحوي العديد من المقاصير، وهو من مخلفات الحقبة الفرنسية، أدخلونا كل اثنين إلى مقصورة بلا باب، وزعوا الصابون العسكري ضرباً على الرأس، لكل واحدا لوح من الصابون .. صياح ... شتائم ... تركيز شديد في هذا الصياح وهذه الشتائم حول موضوع ألا نستغل فرصة وجودنا في الحمام ونلوط بعضنا بعضا !!، وأنهم يعرفون أننا كلنا لوطيون وأننا نفعل كذا وكذا ببعضنا.
    الماء النازل من "الدوش" يغلي، البخار يتصاعد، تعديل حرارة الماء غير ممكنة، بالكاد دهنّا أجسادنا بالماء، دقيقة واحدة قد تزيد أو تنقص بضع ثوان، نخرج بعدها تحت وقع الكرابيج، الضرب على الأجساد المبللة ذو وقع مختلف، يلسع لسعاً، نعود إلى المهجع ركضاً نحمل آثار الضرب فقط.
    " سوف يلغى الحمّام بعد فترة نتيجة اكتظاظ السجن وسيتم تحويله إلى مهجع يوضع فيه المعتقلون الشيوعيون ."
    تابع الدكتور زاهي العناية بي وبالمرضى الآخرين، جروحي كلها على وشك الشفاء عدا الجرح على وجه القدم اليسرى، و نتيجة لأن عظام مشط القدم قد بانت بعد انكشاط الجلد عنها فقد خشي الدكتور زاهي من مضاعفات أخرى، حضر مرة ومعه شخص آخر وعرف به على أنه طبيب أخصائي جلدية، وقد أخبرني هذا الطبيب أن بمهجعنا فقط يوجد ثلاثة وعشرون طبيباً من مختلف الاختصاصات.
    زميلي في الدفعة قاوم الموت أكثر من شهرين، أخذت في نهايتها صحته في التحسن، أيضا بفضل عناية وسهر زاهي، ثم بدأ يصحو من غيبوبته تدريجياً، وعندما أصبح بإمكانه تحريك رأسه ... نظر باتجاهي وفوجيء بي تماما !! أصيب بالدهشة الشديدة لثوان قليلة حتى أن زاهي الذي كان جانبه سأله إذا كان قد رأى ديناصوراً؟! ولكنه تململ ولم يجب.

    خلال الشهرين الأولين كانت قد نشأت بعض العلاقات بيني وبين بعض السجناء، فعلاقتي مع زاهي تعتبر جيدة، لقد جلسنا عدة مرات سوية نتحدث عن السجن والحرية، بثني العديد من همومه الطبية والعائلية حتى، كشف لي عن خشيته من تفشي وباء ما داخل السجن، وأمام انعدام الأدوية والوسائل الطبية فإن أي وباء سيكون قاضياً، سألته مرة عن تاريخ سجنه ومجيئه إلى السجن الصحراوي، قال:
    - بعد المجزرة مباشرة!!
    - وأية مجزرة تعني؟!
    - ولو يارجل !!! ... معقول ما سمعت بالمجزرة يا أخوي؟
    - لا والله .. ما سمعت .. أناما كنت بالبلد، كنت بفرنسا.
    بعدها سرد علي تفاصيل ما حدث، أو ما سمي بمجزرة السجن الصحراوي:
    - كان في هذا السجن قرابة الألف سجين إسلامي، وفي يوم حزيراني قائظ، حطت طائرات الهليوكوبتر محملة بالجنود الذين يقودهم شقيق الرئيس، مدججين بالأسلحة، نزلوا من الطائرات في ساحات السجن، دخلوا على السجناء في مهاجعهم وبالرشاشات حصدوهم حصداً! جمعوا قسماً منهم في الساحات وقضوا عليهم جميعاً. زاهي أتى إلى هذا السجن بعد المجزرة تماما ،كانت الدماء والشعر الآدمي ونتف من اللحم والأدمغة لا زالت لاصقة على جدران وأرضية المهجع الذي أدخلوه فيه.
    يتوقف زاهي قليلاعن السرد، ينظر عاليا خلال الشراقة نظرة ساهمة ... ويتابع:
    - رحمهم الله جميعا ... الجميع استشهد، كانوا أبطالاً من الرواد الأوائل، عليهم رحمة الله، تصور يا أخوي ... انه خلال المجزرة هجم كم واحد من الشباب المسلم على العساكر المسلحين، واستطاعوا انتزاع بعض الأسلحة... هم يعرفون أنهم راح يموتون على كل حال... ليش ما يقاومون ؟!.. وظلوا يقاومون بالأسلحة هاي ... حتى استشهدوا أو نفذت ذخيرتهم ... كبدوا العساكر خسائر كبيرة ... عليهم رحمة الله ... الغريب انك ما سمعت بهذي المجزرة.. يا أخوي!!.
    وخلال هذين الشهرين لم يسألني أحد عن ديني، فلم يكن يخطر على بال أحدهم أن أكون غير مسلمٍ ، خاصة وأن اسمي لا يوحي بذلك، وبعد التجربة التي مررت بها في مركز المخابرات لم أخبر أحداً بذلك خاصة انه سيكون خارج السياق.

    بعد يومين من دهشة زميلي في الدفعة عندما رآني، كان المهجع كله قد عرف أنني:
    - نصراني، ملحد، وجاسوس!!
    ظهرت النتائج فوراً. قوطعت مقاطعةً تامة من الجميع، لم يعد أحد منهم يحييني، إذا قلت لأحدهم صباح الخير أشاح بوجهه إلى الطرف الآخر عكس تعاليم نبيهم التي تقول: "ردوا التحية بأحسن منها".
    في اليوم الثالث للدهشة، تظاهر زاهي بأنه يريد الكشف على قدمي. قال لي وهو منهمك بفحصها:
    - أن تكون نصراني... هذا مو مشكلة، انت من أهل الكتاب !.. شغلة أنك تكون جاسوس للنظام .... هاي ماتخرط لا بالعقل ولا بالمنطق ... أنت كنت راح تموت بالتعذيب... وهذول الكلاب ما يقتلون جواسيسهم !!... بس قولي ... صحيح انك أعلنت قدام كل الناس بفرع المخابرات انك ملحد ؟! .
    - صحيح يا دكتور... ولكني قلتها تخلصاً من العذاب والسجن.
    - هذا مبرر غير كافي، لكنني أظن أنك رجل جيد، لذلك أقول لك ... خليك حذر...انتبه!! بهذا المهجع جماعة من المتشددين... يفكرون انه من واجبهم قتل الكفار "حيثما وجدوا"، وأنت صار معروف للجميع إنك كافر!!... وشغله ثانيه أرجو انه ما تحاول تحكي معي... فأنا لا أستطيع أن أكون شاذاً عن الجماعة!
    - شكراً يا دكتور... على كل شيء.
    - لا شكر على واجب.

    مضى أسبوع دون حوادث تذكر، وذات يوم خرجت من المرحاض وأنا أعرج، أحاط بي فورا حوالي عشرة أشخاص كلهم شباب في بداية العشرينات من عمرهم... صرّت كلمات من بين أسنان أحدهم:
    - وقف ولك ... يا نجس .. يا كافر ... هذي هي نهايتك يا كلب.
    تجمدت مكاني، ذهلت... لأجزاء من الثانية نظرت إلى العيون المحدقة بي، فائض من الحقد والكراهية ينفجر من هذه العيون، العزم.. الإصرار..!.
    تضيق الدائرة حولي ... استسلام كلي، بل شلل بالتفكير.
    طوال الفترة الماضية لم أكف عن الخوف، الخوف من المخابرات، الخوف من الشرطة العسكرية، الخوف لدى قرقعة المفتاح في باب المهجع، الخوف من الضرب والألم والموت ... أما الآن .. إنني أرى الموت يحدق بي من خلال الأعين المحيطة بي ..! هل خفت ؟ ... لا أدري، لقد كنت حجراً... قطعة خشب مجردة من الأحاسيس والمشاعر، لا تفكير.. لا رد فعل... جمود كلي... واستسلام تام...!!.
    صمت رصاصي ثقيل يخيم على الفسحة الصغيرة أمام المرحاض، وهي مكان لا يستطيع الحارس على السطح أن يراه من شراقة السقف، كان اقترابهم مني بطيئاً، خطواتهم صغيرة جداً نحو مركز الدائرة الذي هو أنا، هل تعمدوا تعذيبي عبر إطالة عمرخوفي وفزعي؟!.. هل كانوا خائفين من ردود فعلي؟!.. هل هم لم يحزموا أمر موتي بعد؟!.. لست أدري!.
    فجأة كُسر الصمت... وكُسر محيط الدائرة البشري حولي، قفز شخص كبير السن وأحاطني بيديه، التفت إلى المحيطين بي وبصوت هادىء أجش قال:
    - من يعتدي على هذا الشخص فقد اعتدى علي!.
    قالها بالفصحى. بوغت المهاجمون... توقفوا، قال أحدهم:
    - يا شيخ محمود ... يا شيخ محمود، نحن نحترمك ، لكن ... ما الك علاقة بهذا الأمر!.. أنت شيخ دين، ولازم تكون معنا في القضاء على الكفر والكفار!.
    - لا... لست معكم! قال الله تعالى: "لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق".
    - لكن... هذا الشخص كافر يا شيخ محمود!.
    - الله وحده يعلم ما في النفوس وسرائر القلوب.
    - لكنه نصراني... وجاسوس!
    - وجادلهم بالتي هي أحسن، ولا تأخذوا الناس بالشبهات.
    كل الناس بالمهجع يراقبون ما يحدث، ولكن لم يتجمع حولنا إلا عدد قليل، خمنت أن أكثرهم من أنصار الشيخ محمود، فجأة رأيت الدكتور زاهي إلى جانبي، التفت إليه الشيخ محمود وقال آمراً:
    - يا زاهي ... خود هالشخص لمكانه.
    سحبني الدكتور زاهي أو جرني من كتفي، انفتحت الدائرة حولنا دون أية ممانعة، أوصلني إلى فراشي وقال لي:
    - اجلس مكانك ولا تحكي أية كلمة!.

    مكان رئيس المهجع إلى جانب الباب حيث يكون جاهزاً دوماً عند فتح الباب لمخاطبة الشرطة، وعلى الطرف الآخر من الباب وضعوا فراشي بدلاً من الشخص الذي كان يحتله. يبدوا أنهم رفضوا أن أكون بينهم، الباب على يساري، الشخص الذي على يميني وهو الجار الوحيد لي أبعد فراشه عن فراشي أكثر من ربع متر رغم الاكتظاظ والازدحام، ولم يحتج أحد.
    أضحت مقاطعتهم لي تامة، التهديد لا زال مسلطاً، جلست على فراشي ساهماً أتحاشى النظر إلى أي اتجاه محدد.
    مع الأيام بدأت تنمو حولي قوقعة بجدارين:
    ـ جدار صاغه كرهم لي. كنت أسبح في بحر من الكراهية والحقد والاشمئزاز، وحاولت جاهداً ألا أغرق في هذا البحر.
    ـ والجدار الثاني صاغه خوفي منهم!
    وفتحت نافذة في جدار القوقعة القاسي وبدأت أتلصص على المهجع من الداخل، وهو الأمر الوحيد الذي استطعته.
    31 كانون الأول
    اليوم عيد رأس السنة، ترى أين تسهر سوزان اليوم ؟! "لم أكن منتبهاً الى مسألة التواريخ هذه، الأيام هنا كلها متشابهة، ولكني سمعت رئيس المهجع يقول ملاحظة إلى بعض السجناء بأن اليوم هو رأس السنة الميلادية وأن غداً هو يوم الخميس، ومن حسن الحظ أن هؤلاء الظالمين يسهرون ويعربدون ويفسقون في هذا اليوم حتى الصباح، بعدها ينامون، ومعنى ذلك ان الهليوكوبتر لن تأتي غداً، لا محاكمات ... لا إعدامات".
    بعدها أصغيت للأصوات خارج المهجع، يبدو أن بعض عناصر الشرطة يحتفلون برأس السنة في غرفهم، "حفل في الجحيم" خطر بذهني هذا العنوان، هل هو عنوان فيلم ؟! عنوان رواية ؟... أو مسرحية ؟ لا يهم.
    سوزان، خلال الشهور الثمانية الماضية كان حنيني إليها يكاد يكون وحشياً!.
    أهلي، أين هم الآن؟ ماذا يفعلون؟ بماذا يفسرون غيابي طوال هذه الفترة؟ ماذا فعلوا ليعرفوا أين أنا ؟... وأين ولماذا اختفيت ؟... أبي وأمي يعيشان هنا وكانا ينتظران وصولي... أنا لم أصل إلى البيت، إذاً أين أنا؟؟ يجب أن يكون هذا تساؤلهما الرئيسي!.
    أبي ضابط متقاعد وله معارفه، وكذلك خالي فهو يملك بعض النفوذ، وبعض الأقرباء الآخرين، لماذا لم يتحركوا حتى الآن لانتشالي من هذا الجحيم؟... ولكن ما أدراني!! قطعا إن جميعهم الآن يتحركون ويسعون.
    هذه الأفكار أشعرتني ببعض الأمل!.
    أحتاج إلى شخص أحادثه عن كل هذه الأمور، أسأله، أبثه همومي. أنظر حولي فتصدمني الوجوه المغلقة، أكثر من نصف عام مرّ على مقاطعتهم لي، فقط بضع كلمات من رئيس المهجع عند الضرورة، وبضع كلمات من زاهي خلسة. فمي مطبق لا يفتح إلا أثناء إدخال الطعام. أحس أن لساني قد بدأ يصدأ. هل يمكن للإنسان أن ينسى عادة الكلام إذا لم يتكلم لفترة طويلة؟. يجب أن أتكلم حتى لو مع نفسي وليقولوا أنني مجنون!!.
    لا أستطيع أن ألمس شيئاً من أشيائهم، أجسادَهم. مرةً كنت ماشياً باتجاه المغاسل فاصطدمت يدي بيد واحد منهم كان عائداً من المغاسل، رجع واغتسل ليتطهر. إذا استخدمت حنفية الماء فإن من يأتي بعدي يغسلها بالصابون سبع مرات، لأنني ببساطة "نجس". مرةً سمعت واحداً يقول للآخر بأنه لا يكفي أن يغسل الحنفية بالصابون سبع مرات، إنما يجب أن يكون لدينا بعض التراب... لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
    "إذا ولغ كلب في إناء ، فاغسلوه سبع مرات إحداها بالتراب."
    من يقوم بتوزيع الطعام يضع الطعام لي أمام فراشي ويتحاشى أن يلمس بطانيتي أو ينظر إلي، كانوا يتكتمون أمامي! ولكن رغم ذلك استطعت أن أعرف الكثير عن حياتهم الداخلية ووسائل عيشهم وأساليبهم داخل السجن.

    الصلاة
    الصلاة ممنوعة منعاً باتاً بأوامر مدير السجن. عقوبة من يقبض عليه متلبسا بجرم الصلاة هي " الموت "، رغم ذلك فإنهم لم يكونوا يفوتون ولا صلاة واحدة. صلاة الخوف، يوجد شيء من هذا في الإسلام، ولكن هنا طوروها بحيث أن الإنسان يصلي وهو جالس في مكانه أو في أي وضعية أخرى، دون ركوع أو سجود. إدارة السجن عرفت هذا أيضاً، ويتناقلون حديثاً لمدير السجن قاله أمام السجناء الشيوعيين، ودائماً حديث مدير السجن أشبه ما يكون بالمحاضرات أو الخطب، خاطب الشيوعيين قائلاً:
    - هؤلاء الكلاب ... الإخوان المسلمون، البارحة فقط أمضيت أكثر من نصف ساعة وأنا أشرح لهم وأفهمهم أن القومية أهم من الدين، ولكن هل تتصورون أنهم اليوم عادوا يصلون !!! عجيب أمر هؤلاء الناس !! لماذا ذهنهم مغلق إلى هذه الدرجة ؟!.

    الاتصال
    جميع المهاجع ملتصقة ببعضها، كل مهجع ملتصق بمهجعين آخرين من اليمين واليسار، وأحياناً من الخلف أيضاً، وهذا الأمر سهّل الاتصال بين السجناء كثيرا، ويكون ذلك بالدق على الحائط حسب طريقة مورس، دقة على الحائط ... دقتان ... دقة قوية ودقة ضعيفة... نفس رموز البرقيات التي ترسل وفق طريقة مورس.
    كل ما يجري داخل السجن، الدفعات الجديدة، من مات، عدد الذين اعدموا وأسماؤهم، الأخبار خارج السجن والتي ينقلها السجناء الذين جاؤوا حديثاً، كل هذه الأشياء كانت تنتقل عبر المهاجع وفق رموز المورس، وفي كل مهجع مجموعة مخصصة لتلقي وإرسال تلك الرموز، تقف خلفهم مجموعة الحفظة.
    بدأ الحفظ منذ بداية "المحنة " كما يسميها الإسلاميون، كان الشيوخ الكبار يجلسون ويتلون سورَ وآياتِ القرآن على مجموعة من الشباب، وهؤلاء يظلون يكررونها حتى يحفظوها، وهكذا تولدت آلية الحفظ هذه، لم يبق أحد في المهجع إلا وحفظ القرآن من أول حرف إلى آخر حرف، ومع كل دفعة جديدة كانت تبدأ دورة جديدة، ولاحقاً تطور الأمر باتجاه آخر، يتم انتقاء مجموعة من الشباب صغار السن يحفظون إضافة الى القرآن وأحاديث النبي محمد ... ما يمكن تسميته بسجل السجن، أسماء كل من دخل هذا السجن من الحركات الإسلامية. "في مهجعنا شاب لم يبلغ العشرين من عمره، يحفظ أكثر من ثلاثة آلاف اسم، اسم السجين، اسم مدينته أو بلدته، قريته، تاريخ دخوله السجن ... مصيره!!." بعضهم متخصص بالإعدامات والقتل، وهم يسمون كل من يقتل أو يعدم في السجن شهيداً، وهذا سجل الشهداء. أيضا يحفظون الاسم، عنوان الأهل، تاريخ الإعدام أو القتل.
    أعجبت بهذه الطريقة وأخذت أدرب نفسي عليها، وبعد أن امتلكت القدرة الكافية قررت كتابة هذه اليوميات، أكتب الجملة ذهنيا، أكررها... أحفظها، أكتب الثانية... أحفظها، في آخر اليوم أكون قد كتبت وحفظت أهم أحداث اليوم، واكتشفت أنها طريقة جيدة لشحذ الذهن وتمضية الوقت الطويل في السجن، وفي صباح اليوم التالي أتلو كل ما حفظته البارحة.
    عرفت لاحقا أن ما حفظ حياتي هو أنهم ليسوا مجموعة واحدة، فبالإضافة للمتشددين الذين حكموا علي بالموت، يوجد التنظيم السياسي وهو تنظيم لم يحمل السلاح ولم يشارك بالعمليات العسكرية، وهناك جماعة التحرير الإسلامي وهم جماعة مسالمة ومنهم الشيخ محمود وزاهي اللذان أنقذا حياتي، وكذلك جماعات الصوفية وهي كثيرة ومتشعبة... وغيرهم.
    هذه المجموعات بقدر ما كانت تبدو متماثلة ومتشابهة، يختلف بعضها عن بعضها الآخر إلى درجة أن هذه الخلافات كانت تصل إلى حد التكفير، إلى حد الاصطدام والاشتباك بالأيدي والضرب المبرح دون رحمة أو شفقة.
    هم قساة إلى درجة أن بعض أعضاء الجماعة المتشددة كانوا يروون كيف أنهم أنهوا تدريبهم العسكري ببيان عملي قتلوا خلاله بعض "الزبالين" في الصباح الباكر أثناء قيام هؤلاء بتنظيف الشوراع، وكان هذا مجرد تدريب أو "عمادة بالدم". هؤلاء أنفسهم يتحولون إلى كائنات في منتهى الرقة و يبكون عندما يروي قادم جديد أن أجهزة المخابرات كانت تعذب طفلاً صغيراً أمام والده أو والدته لإجبارهم على الاعتراف، أو كيف تم اغتصاب إحدى الفتيات أمام والدها لإهانته وإذلاله وإجباره على الإدلاء بما يملك من معلومات.
    شجاعتهم أسطورية في مواجهة التعذيب والموت، وخاصةً لدى فرق الفدائيين، وقد رأيت أناساً منهم كانوا يفرحون فرحاً حقيقياً وهم ذاهبون للإعدام. لاأعتقد أن مثل هذه الشجاعة يمكن أن توجد في مكان أخر أو لدى مجموعة بشرية أخرى.
    هناك الكثير من الجبن أيضاً، ولكن الجبن لا يلفت النظر بقدر الشجاعة. ففي ظل هذا الوضع يبدو الجبن والخوف طبيعيين والشجاعة استثنائية. ولكن هنا عندما يكون الجبن مبالغاً فيه يعزى إلى قلة الإيمان بالله.
    " كسلحفاةً أحست بالخطر وانسحبت داخل قوقعتها، أجلس داخل قوقعتي.... أتلصص، أراقب، أسجل، وأنتظر فرجاً".
    31 أب
    صيفان وشتاء واحد مروا وأنا هنا وسط هذه الصحراء المترامية، هنا لا توجد فصول أربعة، فقط فصلان، صيف وشتاء، ولا ندري أيهما أشد قسوة من الآخر، في الصيف يبدو الشتاء رحيماً، وأثناء الشتاء نحس العكس.
    نحن الآن في عز الصيف. الجو لاهب، لا يوجد هواء لنتنفسه، الهواء ثقيل جدا بحيث نحتاج إلى جهد كبير لشفطه إلى داخل الرئتين، وهذا يجعل عرَقنا يسيل سيلاً، سمعت بعضهم ممن يعرف المنطقة سابقاً يقول إن درجة الحرارة قد تصل الخمسين أو حتى ستين درجة مئوية في الخارج، وفي الظل داخل المهجع لا تقل عن الخمسة وأربعين درجة مئوية، تأفف أحدهم:
    - العمى ... شو نحن مسجونين بفرن !!.
    بعض كبار السن قضوا اختناقا، رئيس المهجع يدق الباب ويخبر الشرطة بموت أحدهم، يفتحون الباب، ويبدو صوت الشرطي سائلاً من شدة الحرارة:
    - وين هادا الفطسان ؟... يالله ... زتوه لبره.
    يحتال رئيس المهجع لإبقاء بعض أواني الطعام البلاستيكية داخل المهجع ومنذ الصباح الباكر وقبل استيقاظ الناس تقوم الخدمة اليومية بملء الأواني بالماء، جميع السجناء بالسراويل الداخلية التي تغطي " العورة " فقط، من السرة إلى الركبة، يدخل أربعة سجناء إلى الفسحة الصغيرة أمام المراحيض، يقوم أربعة من عناصر الخدمة اليومية "وهذه الخدمة منظمة دورياً من السجناء أنفسهم، أنا معفى من كل أنواع الخدمة !" بصب الماء على رؤوس وأجساد الأربعة، ويخرج هؤلاء سريعاً والماء يقطر منهم، يدخل أربعة غيرهم ... وهكذا.
    ستة بطانيات مبللة بالماء، كل بطانية يمسكها اثنان من الخدمة، يقفون على مسافات متساوية داخل المهجع، يهزون البطانيات جاعليها كمراوح لتحريك الهواء وترطيب الجو، هذا هو اليوم الصيفي العادي.
    أما اليوم الشتائي فهو يوم منكمش، ثياب الجميع قد تهرأت ولا يمكن أن تقي من البرد الصحراوي الحاد الذي ينخر العظام ويجمد المفاصل، ثلاثة بطانيات تعاقبت عليها الأيام واستخدمها قبلي مئات السجناء، ألبس بذلتي الباريسية الأنيقة، السترة والبنطال وكان الشرطة قد صادروا "الكرافات"، سترة البذلة لا زالت بحالة جيدة، أما البنطال فقد اهترأ عند الركبتين وفي المؤخرة، السحاب قد خرب وتقطعت الأزرار، ألبسه ليلاً نهاراً وعلى مدار الأيام، وقد نَسلت بعض الخيوط من البطانية وجدلتها وجعلتها حزاما أثبت فيه البنطال بدلاً من الأزرار والسحاب، "شاهدت غيري يفعل هذا ففعلت". هنا لا يوجد خيطان أو إبر خياطة، أصبح لدي سروالان داخليان، أحد القادمين الجدد إلى المهجع كان أهله أغنياء جدا، وقد استطاعوا زيارته أثناء وجوده في فرع المخابرات بعد أن دفعوا ما يوازي ثروة صغيرة كرشوة إلى الضابط المسؤول، وهناك من نصحهم بأن يأخذوا لابنهم الكثير من الثياب. "جلب معه أكثر من مائة غيار داخلي، كان نصيبي منها سروالاً داخلياً، أعطاني إياه رئيس المهجع:
    - خود هذا .... مشان يكون عندك بدل!
    البرد الصحراوي أقسى من أي برد آخر، عشت أياماً باردة جدا في فرنسا كانت الحرارة تصل الى تحت الصفر ، ولكن ذلك البرد يبدو برداً مهذباً، بينما البرد هنا وقح صفيق!
    أما مشكلة القمل فتكون أصعب في اليوم الشتائي، فلا حل للقمل المنتشر بكثافة في جميع المهاجع إلا أن تجلس وتخلع كل ثيابك وتبدأ بالتفتيش عنه في ثنايا الثياب، الجميع هنا يفعل ذلك وفعلت مثلهم بعد أن هرش جلدي، ولكنني لم استطع أن أخرج الصوت الذي يخرجونه من بين أسنانهم "تسه" كلما فقسوا قملة بين اظفري الإبهامين!!
    كل يوم بعد وجبة الإفطار يخلع الجميع ثيابهم ويبدؤون تفليتها بحثا عن القمل، وأنا أيضاً أمسك القملة وأهرسها بين الأظفرين، كان وجود القمل بهذه الكثافة محيراً، تساءل أحدهم بغضب:
    - العمى منين عم يجي كل هالقمل ؟!.. كل يوم ننظف ثيابنا منه، كل يوم نتوضأ خمس مرات، على الأغلب نغسل كل يوم جسمنا بالماء البارد والصابون، نغسل ثيابنا، نغسل بطانياتنا، وباليوم الثاني نشوف القمل أكثر ... وأكثر !!.. العمى... في حدا عم يرش المهاجع بالقمل؟!!
    10 أيلول
    لأول مرة يدور في المهجع نقاش خارج عما هو موجود في القرآن أو السنة النبوية ، نقاش طويل شارك فيه أكثر من عشرة أشخاص بينهم اثنان من المشلولين، " كل النقاشات، الحوارات، حتى الشجارات ... تتم بصوت منخفض خشية أن تسمع الشرطة". وكان موضوع الحوار هو الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، بدأ هذا النقاش طبيب دارس في أوربا بملاحظة سريعة أبداها حول الحرية ومُثل الديمقراطية الغربية، استمر النقاش طويلا وانتهى بقول أحد المشلولين:
    - تقول الحضارة الغربية !... انظر يا أخي حولك، أنا مشلول بالكرسي الألماني، وهذا محمد علي مشلول أيضا برصاصة استقرت بعموده الفقري مصنوعة في روسيا، هذا السجن بنته فرنسا، القيود التي كبلوا بها يديّ مكتوب عليها "صنع في أسبانيا"، الضابط الذي اعتقلني يحمل مسدساً بلجيكيا، الضباط الذين يشرفون على التحقيق والتعذيب تدربوا في أمريكا وبريطانيا وروسيا ... هذه منتجات الحضارة الغربية، وإذا أضفت إلى كل هذا الكثير من الفسق والفجور والانحلال الأخلاقي تكون الحضارة الغربية مجسدة أمامك.
    بصوت تعب وبلهجة من يود إنهاء نقاش لا طائل تحته، لكنه لا يريد التسليم بحجج الخصم، رد الطبيب:
    - إن في هذا الكثير من التجني والاجتزاء، أنا لا أقول أن نقلد الغرب أو نأخذ سلبياتهم، في الغرب أيضاً العلوم والطب وتطور الزراعة والصناعة ... وفوق كل هذا وأهم من كل شيء ... هو أن لديهم إنساناً حراً ومحترماً، إذا أردنا أن نتقدم علينا أن نتعلم منهم الكثير وخاصة احترام الإنسان واحترام حريته، وهذا ليس عيباً.
    25 كانون الأول

    جافاني النوم. الساعة السادسة مددت البطانية كالعادة وتمددت. الواحدة بعد منتصف الليل مللت الاضطجاع بعد أن آلمتني أجنابي، جلست ولففت نفسي بالبطانيات، خمس دقائق وصوت الحارس من خلال الشراقة:
    - يا رئيس المهجع .. يا حمار.
    - نعم سيدي.
    - علملي هالتيس القاعد جنبك.
    - حاضر سيدي.
    لقد علمني. تمددت فورا، غداً صباحاً سيكون فطوري خمسمائة جلدة بقشاط مروحة الدبابة على قدمي! إن قدمي التي أصيبت شفيت تماما مع ندب طويل ولكنها كانت تؤلمني دائماً في أيام البرد فألفّها أكثر من غيرها، كنت احلم بزوج من الجوارب الصوفية! احد أحلامي الصغيرة. ماذا سيكون مصير هذه القدم المسكينة عندما تتلقى خمسمائة جلدة؟ لم أستطع النوم حتى الصباح. وعندما فتح الباب وصاح الشرطي برئيس المهجع ليخرج الأشخاص الذين تم تعليمهم، قفزت واقفاً، ولكن رئيس المهجع وبسرعة قال:
    - مكانك، لا تتحرك، واحد من الشباب طلع بدلا منك.
    ذهلت، واحد من الفدائيين، واحد من المتشددين الذين حاولوا قتلي لأنني كافر يفديني الآن بنفسه ويتلقى عني خمسمائة جلدة!!
    منذ سنة ونصف تقريبا لم أنطق ولا كلمة، جلست مكاني وأنا أنظر إلى رئيس المهجع بذهول، خرجت كلمتان من فمي لا إرادياً:
    - لكن ... ليش ؟
    لم يجب رئيس المهجع بشيء، أشار بيده لي أن اسكت، إشارة فيها الكثير من الاحتقار و الاشمئزاز!!.
    عاد الأشخاص الذين جلدوا، بعد وجبة الجلد يعودون ركضا على الإسفلت الخشن وهم حفاة، أكثر من واحد منهم رمقني بطرف عينه بنظرة ازدراء وحقد!!
    إذاً لماذا؟؟
    "لزمني زمن طويل حتى استطعت التوصل إلى تخمين:
    بما أنني جاسوس فإنهم كانوا حريصين جداً ألا أحتك بعناصر الشرطة كي لا أمارس جاسوسيتي !!."
    في اليوم نفسه كان دور مهجعنا بالتنفس .

    التنفس
    في السجون الأخرى التنفس هو حيز زمني يخرج فيه السجين من مهجعه إلى ساحة هواؤها نقي، بها بعض الملاعب فيتريض، معرضة للشمس فيتشمس... يأخذ حاجته من الهواء والشمس والحركة.
    هنا ... قبل التنفس يكون السجناء في المهجع قد انتظموا في طابور متلوٍ بعضهم خلف بعض، تفتح الشرطة الباب، يخرج الطابور بخطوات بطيئة، الرؤوس منكسة إلى الأسفل، العيون مغمضة، كل سجين يمسك بثياب الذي أمامه، عناصر الشرطة والبلديات يحيطون بالساحة وينتشرون بها بكثافة، يسير الطابور سيراً بطيئاً أو سريعاً حسب مزاج وإرادة الرقيب.

    الاثنين والخميس يومان مختلفان عن بقية أيام الأسبوع هنا. في هذين اليومين تتم الإعدامات، لذلك عندما نخرج للتنفس في هذين اليومين تكون كمية التعذيب والضرب أكثر من غيرهما من الأيام، وفي التنفس يكون الضرب غالباً على الرأس:
    - ولا كلب... ليش عم ترفع راسك؟!
    ويهوي الكرباج على الرأس.
    - ولك ابن الشرموطة !!.. ليش عم تفتح عيونك من تحت لتحت ؟!!
    ويهوي الكرباج على الرأس.
    في الصيف يكون التعذيب أقل. حرارة الشمس التي تثقب رؤوسنا تجعل عناصر الشرطة في حالة تكاسل وعدم ميل للحركة، في الشتاء يشتدّ التعذيب.
    أحياناً وبينما الطابور يدور يتجمع بعض عناصر الشرطة حول الرقباء، تدور بينهم أحاديث لا نسمعها، يصبح مزاجهم فجأة أميل للتسلي بنا، يصرخ الرقيب:
    - ولا حقير... أنت أنت يا طويل... أطول واحد بالصف، تعال هون...
    يركض أحد البلديات ويجر أطول واحد بيننا، طوله أكثر من مترين، الرقيب جالس على كتلة إسمنتية أشبه بالكرسي، يضع رجلاً على رجل، يشد صدره يرجع رأسه إلى الوراء والأعلى، يقول:
    - ولا حقير .. أنت بني آدم ولا زرافة؟
    يضحك المتجمعون حوله بصخب، يتابع الرقيب:
    - وهلق ... اركض حول الساحة خمس دورات وطالع صوت متل صوت الزرافة ... يالله بسرعة.
    يركض السجين ويصدر أصواتاً، لا أحد يعرف كيف هو صوت الزرافة، أعتقد حتى ولا الرقيب نفسه، يدور السجين خمس مرات، يتوقف، يقول الرقيب:
    - ولا حقير ... هلق بدك تنهق متل الحمار!
    ينهق السجين الطويل. تضحك الشرطة.
    - ولا حقير... هلق بدك تعوي متل الكلب!
    يعوي السجين الطويل. تضحك الشرطة. يضحك الرقيب وهو يهتز، يقول:
    - ولا حقير... إي ... إي ... هاي ناجحة وكويسه ... أنت متل الكلب فعلا.
    ثم يلتفت إلى رتل السجناء الذي يسير منكس الرؤوس ومغمض العينين، يصيح:
    - ولا حقير... أنت أنت... أقصر واحد بالصف ، تعال هون.
    يركض أحد البلديات، يجر أقصر واحد بالرتل. شاب صغير لا يتجاوز الخامسة عشر، طوله أكثر قليلا من المتر والنصف، يقف أمام الرقيب الذي يضحك ويقول:
    - ولا حقير... يا زْمِكّ ... وقف قدام هالكلب الطويل.
    يقف السجين القصير أمام السجين الطويل، يصرخ الرقيب:
    - ولا حقير ... يا طويل ... هلق بدك تعوي وتعض هالكلب يللي قدامك وبدك تشيل قطعة من كتفه ، وإذا ما شلت هـ القطعة ... ألف كرباج.
    يعوي الطويل ثلاث أو أربع مرات متواصلة، يتقدم من القصير وينحني مطبقا بفكيه على كتف القصير الذي يصرخ ألماً ويتملص من العضة.
    - ولا حقير... يا طويل... وين قطعة اللحم ؟ يا شرطة ... ناولوه.
    ينهال رجال الشرطة بكرابيجهم ضرباً على الطويل، يسقط على ركبتيه، يتساوى بالطول مع القصير وهو جاثٍ ... يترنح ... يصرخ الرقيب:
    - بس ... " تتوقف الشرطة عن الضرب " ... ولا حقير ... طويل ... قوم وقف.
    يقف الطويل.
    - ولا حقير... قصير... وقف وراءه.
    يرجع القصير إلى خلف الطويل.
    - وهلق ... انتوا الاثنين اشلحوا تيابكم.
    يخلع الاثنان ثيابهما ويبقيان بالسراويل.
    - ولا حقير قصير... نزل سرواله.
    ينزل القصير سروال الطويل الى حد الركبتين.

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 4:29 pm